بسم الله الرحمن الرحيم. “العم قوقل”… بصراحة، اسم على مسمى. من منا لا يبدأ يومه بسؤال لقوقل؟ من أصغر معلومة (مثل: “أفضل طريقة لإعداد القهوة”) إلى أكبر بحث علمي. هذه الشركة العملاقة أصبحت جزءاً لا يتجزأ من حياتنا اليومية.
لكن هل توقفت يوماً وفكرت كيف نمت هذه الشركة، وماذا تقدم لنا فعلاً، وماذا “تأخذ” في المقابل؟ دعونا نتحدث اليوم عن قوقل، الإيجابيات والسلبيات.
بدايات قوقل: من مشروع جامعي إلى عملاق يهز العالم
كل قصة نجاح عظيمة تبدأ بفكرة، وغالباً ما تبدأ من مكان متواضع.
قصة لاري وسيرجي (والمرآب)
تبدأ القصة في جامعة ستانفورد عام 1996. كان الإنترنت وقتها مكاناً فوضوياً، وإيجاد معلومة دقيقة كان أشبه بالبحث عن إبرة في كومة قش. الطالبان لاري بيج و سيرجي برين كانا منزعجين من ضعف محركات البحث الموجودة آنذاك، والتي كانت ترتب النتائج بناءً على عدد تكرار الكلمات في الصفحة.
جاءت فكرتهما العبقرية: ماذا لو رتبنا الصفحات بناءً على “أهميتها”؟ وكيف نقيس الأهمية؟ عن طريق عد الروابط التي تشير إليها من مواقع أخرى (كل رابط هو “صوت” لصالح الصفحة). أطلقا على هذا النظام اسم “PageRank”.
مشروعهما البحثي الأولي كان اسمه الغريب “Backrub”، لكنهما سرعان ما غيراه إلى “Google” (وهو تحريف لكلمة “Googol” التي تعني رقماً ضخماً جداً: 1 متبوعاً بـ 100 صفر). وفي عام 1998، انطلقت الشركة رسمياً، ليس من برج شاهق، بل من مرآب سيارات (كراج) في كاليفورنيا.
فرصة ياهو الضائعة!
في بداياتهم، كان لاري وسيرجي يبحثان عن أي طريقة لتمويل مشروعهما، لدرجة أنهما عرضا بيع تقنيتهما لشركة “ياهو” (عملاق الإنترنت وقتها) مقابل مليون دولار فقط! لكن ياهو رفضت العرض. اليوم، قيمة شركة “ألفابت” (الشركة الأم لقوقل) تتجاوز التريليون دولار، ولديها أكثر من 180,000 موظف. سبحان الله، أرزاق.
قوقل و “المصادر المفتوحة”: حين تتم مشاركة المعرفة
أحد أجمل الجوانب في قوقل هو إيمانها بمبدأ “المصادر المفتوحة” (Open Source).
ماذا تعني “مصادر مفتوحة”؟
ببساطة، تخيل أنك أعددت وصفة طعام مميزة وكتبت طريقتها بالتفصيل وقدمتها للناس مجاناً. أي شخص يمكنه أخذ الوصفة، وتجربتها، وحتى التعديل عليها وإضافة لمسته الخاصة. هذا بالضبط ما تفعله قوقل ببعض برامجها. هي تتيح “الكود المصدري” (الوصفة البرمجية) للجميع.
أندرويد وكروم: أكبر الأمثلة
- نظام أندرويد (Android): هذه نقطة تقنية مهمة جداً. نظام أندرويد في أساسه مبني على نواة لينكس (Linux Kernel)، وهي نواة شهيرة وقوية ومفتوحة المصدر تدير المكونات الأساسية للجهاز (كالمعالج والذاكرة). ما فعلته قوقل هو أنها أخذت هذه النواة، وبنت “فوقها” كل الطبقات الأخرى التي نراها: الواجهات، الخدمات، مكتبات التشغيل، وأطلقت على هذا النظام المتكامل اسم “أندرويد”. بعد ذلك، أتاحت قوقل “مشروع أندرويد المفتوح المصدر” (AOSP) للشركات لاستخدامه وتعديله بحرية.
- متصفح كروم (Chrome): حتى هذا المتصفح الشهير، مبني على مشروع مفتوح المصدر اسمه “كروميوم” (Chromium). هذا سمح لمطورين آخرين (مثل مايكروسوفت مع متصفح Edge) أن يبنوا متصفحاتهم الخاصة بناءً على نفس الأساس.
وعندهم مشاريع أخرى كثيرة مثل:
- لغة البرمجة Go
- نظام Kubernetes لإدارة الخوادم
- مكتبة TensorFlow للذكاء الاصطناعي
يوتيوب: مكتبة البشرية المرئية
في 2006، اتخذت قوقل خطوة ذكية جداً واستحوذت على موقع “يوتيوب”.
من تسلية إلى بنك معلومات
يوتيوب تحول من مجرد موقع لمقاطع فيديو طريفة، إلى أكبر مكتبة علمية ومعرفية مجانية في تاريخ البشرية. تريد أن تتعلم البرمجة؟ موجود. تريد أن تتعلم مهارة يدوية؟ موجود. تريد أن تشاهد وثائقياً عن التاريخ؟ موجود. كل هذا مجاناً ومن أي جهاز. هذه بحد ذاتها خدمة جليلة للبشرية.
العلم الذي يبقى (إن شاء الله)
الجميل في يوتيوب أن المعلومة التي تقدمها اليوم، قد تفيد الناس حتى بعد سنوات طويلة. هذا العلم يبقى كأرشيف دائم، إلا إذا قرر صاحب القناة حذف الفيديو. وهذا ما شجعني شخصياً على فتح قناتي المتواضعة وأتحدث فيها عن نظام “لينكس” (Linux) وتجاربي التقنية. إذا كنت مهتماً، تفضل بزيارتها:
- رابط القناة: https://www.youtube.com/@abd87-youtube
قوقل للبحث العلمي (Google Scholar): كنز للطلاب والباحثين
عند الحديث عن خدمات قوقل الجليلة، لا يمكن أن ننسى “قوقل للبحث العلمي” أو “Google Scholar”.
ما هو قوقل للبحث العلمي؟
هو محرك بحث مخصص وموجه بشكل خاص للطلاب، الأكاديميين، والباحثين. بدلاً من البحث في كل الإنترنت، هو يركز فقط على الأوراق العلمية، الأطروحات، الكتب الأكاديمية، والمقالات الموثقة.
لماذا هو مهم؟
قبل وجود “قوقل للبحث العلمي”، كان الوصول للأبحاث العلمية أمراً معقداً ومكلفاً جداً في كثير من الأحيان. الآن، بضغطة زر، يمكن لأي طالب في أي مكان في العالم (بإذن الله) الوصول إلى كم هائل من المعرفة الموثقة. هذه الأداة ساعدت ملايين الطلاب في إنجاز بحوثهم ودراساتهم، وهي خدمة عظيمة تضاف لسجل قوقل.
ولكن… لا يوجد شيء كامل (الجانب الآخر)
لكي نكون منصفين، مثلما “العم قوقل” يقدم لنا الكثير، هو “يأخذ” شيئاً في المقابل.
“إذا كان المنتج مجانياً.. فأنت السلعة”
هذه المقولة تنطبق 100% على قوقل. كل خدماتها المجانية (البحث، جيميل، يوتيوب) لها ثمن، وهو بياناتنا. قوقل تجمع عنا كل صغيرة وكبيرة: ماذا نبحث عنه، أين نذهب، ماذا نشاهد. لماذا؟ لكي تعرفنا أكثر مما نعرف أنفسنا، وتوجه لنا إعلانات دقيقة جداً. هذا هو مصدر دخلها الرئيسي.
الخصوصية في خطر؟
البعض يرى أن هذا انتهاك كبير للخصوصية، وأن فكرة أن شركة واحدة تعرف كل هذه المعلومات عن مليارات البشر هو أمر “مخيف” حقاً. وهذا نقاش أخلاقي وتقني كبير لن ينتهي قريباً.
“مقبرة قوقل”: حين تموت المشاريع فجأة
لدى قوقل عادة غريبة، وهي أنها تطلق مشاريع ومنتجات قوية، والناس تحبها، وفجأة… تقرر “دفن” المشروع وإغلاقه!
تجربتي مع Google Reader
أنا شخصياً كنت من محبي برنامج “Google Reader” (قارئ الخلاصات)، كان برنامجاً رائعاً يمكنني من متابعة كل المدونات والمواقع التي أحبها من مكان واحد. وفي يوم وليلة، قررت قوقل إغلاقه. شعرت بالإحباط الشديد وقتها. وهذا تكرر مع منتجات كثيرة مثل (Google+) و (Picasa) وغيرها. أصبح لديهم موقع مشهور يجمع هذه المشاريع الميتة اسمه “Killed by Google”.
الخاتمة:
“العم قوقل” شركة عبقرية غيرت وجه العالم، وقدمت خدمات سهلت حياتنا بشكل لم نكن نتخيله. من البحث السريع، إلى تعلم مهارة جديدة على يوتيوب، أو إنجاز بحث علمي. لكن في نفس الوقت، يجب أن نكون واعين أن لهذه الخدمات المجانية ثمناً، وهو بياناتنا وخصوصيتنا.
في النهاية، قوقل أداة جبارة، ومثل أي أداة، يمكننا استخدامها للخير والاستفادة منها، مع الحذر من جوانبها السلبية.